الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} ينتقل في هذا الدرس من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، إلى حقيقة الإيمان التي جاء بها الرسل جميعاً؛ ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي لا تتبدل على مدار الزمان، وتعدد الرسالات، وتتابع الرسل، من لدن نوح عليه السلام فإذا نحن نشهد موكب الرسل، أو امة الرسل، وهم يلقون إلى البشرية بالكلمة الواحدة، ذات المدلول الواحد، والاتجاه الواحد، حتى ليوحد ترجمتها في العربية وقد قيلت بشتى اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم فإذا الكلمة التي قالها نوح عليه السلام هي ذاتها بنصها يقولها كل من جاء بعده من المرسلين، فتجيب البشرية جواباً واحداً، تكاد الفاظه تتحد على مر القرون! {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أفلا تتقون؟ فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم، ولو شاء الله لأنزل ملائكة، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. إن هو إلا رجل به جنة، فتربصوا به حتى حين}.. {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. كلمة الحق التي لا تتبدل، يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود {أفلا تتقون؟} وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعاً؟ وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر، وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم؟ ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة؛ ولا يتدبرون شواهدها، ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم، ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات.. فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود، ويشهد به كل ما في الوجود، ليتحدثوا عن شخص نوح: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} ! من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها، وتعمي عليهم عنصرها، وتقف حائلاً بين قلوبهم وبينها؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم، يريد أن يتفضل عليهم، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم! وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون انه يعمل لها، ويتوسل إليها بدعوى الرسالة.. في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس؛ ويستكثرون أن يرسل الله رسولاً من البشر، إن يكن لا بد مرسلاً: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة}. ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى؛ وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه، ويحملونه إلى إخوانهم من البشر، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء. وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}.. ومثل هذا يقع دائماً عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب. فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها. إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن «سابقة» يستندون إليها؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها! وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن ان يكون ثانية. فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة، وتقف حركتها، وتتسمر خطاها، عند جيل معين من {آبائنا الأولين} ! ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون، إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون. وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر، والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود. فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام: {إن هو إلا رجل به جنة، فتربصوا به حتى حين}.. أي إلى أن يأخذه الموت، ويريحكم منه، ومن دعوته، ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد! عندئذ لم يجد نوح عليه السلام منفذاً إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة؛ ولم يجد له موئلاً من السخرية والأذى، إلا أن يتوجه إلى ربه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب: {قال: رب انصرني بما كذبون}.. وعندما يتجمد الأحياء على هذا النحو، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام، في طريق الكمال المرسوم، فتجدهم عقبة في الطريق.. عندئذ إما إن تتحطم هذه المتحجرات؛ وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي.. والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح. ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق؛ فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا. إنهم مغرقون}.. وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم. ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود.. كان العلاج هو الطوفان، الذي يجتبُّ كل شيء، ويجرف كل شيء. ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، فتنشأ على نظافة، فتمتد وتكبر حتى حين: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.. والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، ولحفظ بذور الحياة السليمة كما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه، ليستحق المدد من ربه. فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئاً على الانتظار! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب؛ مع رعاية الله له، وتعليمه صناعه الفلك، ليتم أمر الله، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق. وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: {فإذا جاء أمرنا وفار التنور} وانبجس منه الماء، فتلك هي العلامة ليسارع نوح، فيحمل في السفينة بذور الحياة: {فاسلك فيها من كل زوجين اثنين}.. من أنواع الحيوان والطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان، الميسرة كذلك لبني الإنسان {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله السابقة، وسنته النافذة، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله. وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد، ولا يحاول إنقاذ أحد ولو كان أقرب الأقربين إليه ممن سبق عليهم القول. {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}. فسنة الله لا تحابي، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم، من أجل خاطر ولي ولا قريب! ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر. فقد قضي الأمر، وتقرر: {إنهم مغرقون} ولكنه يمضي في تعليم نوح عليه السلام كيف يشكر نعمة ربه، وكيف يحمد فضله، وكيف يستهديه طريقه: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك، فقل: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. وقل: رب أنزلني منزلاً مباركاً، وأنت خير المنزلين}.. فهكذا يحمد الله، وهكذا يتوجه إليه، وهكذا يوصف سبحانه بصفاته، ويعترف له بآياته. وهكذا يتأدب في حقه العباد، وفي طليعتهم النبيون، ليكونوا أسوة للآخرين. ثم يعقب على القصة كلها، وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة: {إن في ذلك لآيات، وإن كنا لمبتلين}.. والابتلاء ألوان. ابتلاء للصبر. وابتلاء للشكر. وابتلاء للأجر. وابتلاء للتوجيه. وابتلاء للتأديب. وابتلاء للتمحيص. وابتلاء للتقويم.. وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين.. ويمضي السياق يعرض مشهداً آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور: {ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين. فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أفلا تتقون؟ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وأترفناهم في الحياة الدنيا: ما هذا إلا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون. ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاما أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون! إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين. إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً، وما نحن له بمؤمنين. قال: رب انصرني بما كذبون. قال: عما قليل ليصبحن نادمين. فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء. فبعداً للقوم الظالمين}.. إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع. ومن ثم بدأ بذكر نوح عليه السلام ليحدد نقطة البدء؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة. ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية. إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد، لأن هذا هو المقصود. {ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}.. لم يحدد من هم. وهم على الأرجح عاد قوم هود.. {فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أفلا تتقون؟}.. ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح. يحكيها بالألفاظ ذاتها، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون! فماذا كان الجواب؟ إنه الجواب ذاته على وجه التقريب: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة، وأترفناهم في الحياة الدنيا: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون. ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون}.. فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول. وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم. والترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب. ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله، حتى لينخر فيه السوس، ويسبح فيه الدود! ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب. {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون: إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين}.. ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة. هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض. فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا. والشر كذلك. إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى، التي لا خوف فيها ولا نصب، ولا تحول فيها ولا زوال- إلا أن يشاء الله- ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم، ويرتدون فيها أحجاراً، أو كالأحجار! مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون.. لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد. يموت جيل ويحيا بعده جيل. فأما الذين ماتوا، وصاروا تراباً وعظاماً، فهيهات هيهات الحياة لهم، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به، وقد صاروا عظاماً ورفاتاً! ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى.. لا يقفون عند هذه الجهالة، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله. ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة، ولهذا الغرض من اتهام الرسول: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً، وما نحن له بمؤمنين}.. عندئذ لم يجد الرسول إلا أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح. وبالعبارة ذاتها التي توجه بها إلى ربه نوح: {قال: رب انصرني بما كذبون}.. وعندئذ وقعت الاستجابة، بعد أن استوفى القوم أجلهم؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب: {قال: عما قليل ليصبحن نادمين}.. ولكن حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي المتاب: {فأخذتهم الصيحة بالحق، فجعلناهم غثاء}.. والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة، لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا رابط بينها.. وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى.. لم يبق فيهم ما يستحق التكريم؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق. ويزيدهم على هذه المهانة، الطرد من رحمة الله، والبعد عن اهتمام الناس: {فبعداً للقوم الظالمين}.. بعداً في الحياة وفي الذكرى. في عالم الواقع وفي عالم الضمير.. ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين. ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون. ثم أرسلنا رسلنا تترا. كلما جآء أمة رسولها كذبوه. فأتبعنا بعضهم بعضاً، وجعلناهم أحاديث. فبعداً لقوم لا يؤمنون}.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} هذا الدرس الثالث في السورة يبدأ بتصوير حال الناس بعد أمة الرسل. تلك الحال التي جاء الرسول الأخير فوجدهم عليها. مختلفين متنازعين حول الحقيقة الواحدة التي جاءهم بها الرسل من قبل جميعاً. ويصور غفلتهم عن الحق الذي جاءهم به خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم والغمرة التي تذهلهم عن عاقبة ما هم فيه. بينما المؤمنون يعبدون الله، ويعملون الصالحات، وهم مع هذا خائفون من العاقبة، وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.. فتتقابل صورة اليقظة والحذر في النفس المؤمنة، وصورة الغمرة والغفلة في النفس الكافرة. ثم يجول معهم جولات شتى: يستنكر موقفهم مرة، ويستعرض شبهاتهم مرة، ويلمس وجدانهم بدلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق مرة، ويأخذهم بمسلماتهم فيجعلها حجة عليهم مرة. وينتهي بعد هذه الجولات بتركهم إلى مصيرهم المحتوم. ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه، لا يغضب لعنادهم، وأن يدفع السيئة بالحسنى، وأن يستعيذ بالله من الشياطين التي تقودهم إلى الضلال المبين. {فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون. فذرهم في غمرتهم حتى حين. أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون} ! لقد مضى الرسل صلوات الله عليهم أمة واحدة، ذات كلمة واحدة، وعبادة واحدة، ووجهة واحدة؛ فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق. ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة. لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه بينهم مزقاً، وقطعوه في أيديهم قطعاً. ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحاً لا يفكر في شيء، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة، أو يدخل منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير. وحين يرسم لهم هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {فذرهم في غمرتهم حتى حين}.. ذرهم في هذه الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم. ويأخذ في التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم، إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء: {أيحسبون أنّما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟} وإنما هي الفتنة، وإنما هو الابتلاء: {بل لا يشعرون}.. لا يشعرون بما وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير! وإلى جانب صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}. ومن هنا يبدو أثر الإيمان في القلب، من الحساسية والإرهاف والتحرج، والتطلع إلى الكمال. وحساب العواقب. مهما ينهض بالواجبات والتكاليف. فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى؛ وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به. وهم ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم. وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا.. ولكنهم بعد هذا كله: {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} لإحساسهم بالتقصير في جانب الله، بعد أن بذلوا ما في طوقهم، وهو في نظرهم قليل. «عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله. {الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق. وهو يخاف الله عز وجل». إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه. ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة.. ومن ثم يستصغر كل عباداته، ويستقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته؛ ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله.. ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكراً. وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة، بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة. لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة، مرادون بالخير، كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير، يغمرهم الرخاء، وتشغلهم النعمة، ويطغيهم الغنى، ويلهيهم الغرور، حتى يلاقوا المصير! تلك اليقظة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم. والتي يستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في القلوب.. ليست أمراً فوق الطاقة، وليست تكليفاً فوق الاستطاعة. إنما هي الحساسية الناشئة من الشعور بالله والاتصال به؛ ومراقبته في السر والعلن؛ وهي في حدود الطاقة الإنسانية، حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء: {ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون}.. ولقد شرع الله التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس؛ وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة، لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون؛ ولا ببخسهم شيئاً مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل {ينطق بالحق} ويبرزه ظاهراً غير منقوص. والله خير الحاسبين. إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسسها نوره المحيي، لانشغالها عنه، واندفاعها في التيه؛ حتى تفيق على الهول، لتلقى العذاب الأليم، وتلقى معه التوبيخ والتحقير: {بل قلوبهم في غمرة من هذا، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون. لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون. قد كانت آياتي تتلى عليكم، فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامراً تهجرون}.. فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة؛ إنما العلة أن قلوبهم في غمرة، لا ترى الحق الذي جاء به القرآن، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}.. ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون}.. والمترفون أشد الناس استغراقاً في المتاع والانحراف والذهول عن المصير. وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذاً، فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار، مستغيثين مسترحمين (وذلك في مقابل الترف والغفلة الاستكبار والغرور) ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب: {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون}.. وإذا المشهد حاضر، وهم يتلقون الزجر والتأنيب، والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير، والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه، أو مكروه تجانبونه، مستكبرين عن الإذعان للحق. ثم تزيدون على هذا سوء القول وهجره في سمركم، حيث تتناولون الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به بكلمات السوء. ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم؛ وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه؛ وهم يجأرون طالبين الغوث، فيذكرهم بسمرهم الفاحش، وهجرهم القبيح. كأنما هو واقع اللحظة، وهم يشهدونه ويعيشون فيه! وذلك على طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كأنها واقع مشهود. والمشركون في تهجمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة، التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء، فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام. ومثل هؤلاء في كل زمان. وليست جاهلية العرب إلا نموذجاً لجاهليات كثيرة خلت في الزمان؛ وما تزال تظهر الآن بعد الآن! وينتقل بهم من مشهد التأنيب في الآخرة، فيعود بهم إلى الدنيا من جديد! يعود بهم ليسأل ويعجب من موقفهم ذاك الغريب. . ما الذي يصدهم عن الإيمان بما جاءهم به رسولهم الأمين؟ ما الشبهات التي تحيك في صدورهم فتصدهم عن الهدى؟ ما حجتهم في الإعراض عنه، والسمر في مجالسهم بقالة السوء فيه؟ وهو الحق الخالص والطريق المستقيم: {أفلم يدبروا القول؟ أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟ أم يقولون به جنة؟ بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون! ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون. أم تسألهم خرجاً؟ فخراج ربك خير وهو خير الرازقين. وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم. وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون}.. إن مثل ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك من يتدبره أن يظل معرضاً عنه، ففيه من الجمال، وفيه من الكمال، وفيه من التناسق، وفيه من الجاذبية، وفيه من موافقة الفطرة، وفيه من الإيحاءات الوجدانية، وفيه من غذاء القلب، وفيه من زاد الفكر، وفيه من عظمة الاتجاهات، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع.. وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها {أفلم يدبروا القول} إذن؟ فهذا سر إعراضهم عنه لأنهم لم يتدبروه.. {أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟}.. فكان بدعاً في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول! أو أن يجيئهم بكلمة التوحيد! وذلك تاريخ الرسالات كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم تترى، وكلهم جاء بالكلمة الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول! {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟}.. ويكون هذا هو سر الإعراض والتكذيب! ولكنهم يعرفون رسولهم حق المعرفة. يعرفون شخصه ويعرفون نسبه، ويعرفون أكثر من أي أحد صفاته: يعرفون صدقه وأمانته حتى لقد لقبوه قبل الرسالة بالأمين! {أم يقولون به جنة؟} كما كان بعض سفهائهم يقولون؛ وهم على ثقة أنه العاقل الكامل، الذي لا يعرفون عنه زلة في تاريخه الطويل؟ إنه ما من شبهة من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل. إنما هي كراهية أكثرهم للحق، لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون: {بل جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون}.. والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى؛ وبالحق تقوم السماوات والأرض، وبالحق يستقيم الناموس، وتجري السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}.. فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول. . وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات.. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد. ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعاً. والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب. بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير. وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين: {بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}.. وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام. وقد ظل ذكرها يدوي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة. وقد تضاءل ذكرها عندما تخلت عنه، فلم تعد في العير ولا في النفير. ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير... ! وبعد هذا الاستطراد بمناسبة دعواهم على الحق الذي جاءهم فأعرضوا عنه واتهموه.. يعود السياق إلى استنكار موقفهم، وإلى مناقشة الشبهات التي يمكن أن تصدهم عما جاءهم به الرسول الأمين: {أم تسألهم خرجاً؟} فهم يفرون مما تسألهم من أجر على الهداية والتعليم؟! فإنك لا تطلب إليهم شيئاً، فما عند ربك خير مما عندهم: {فخراج ربك خير وهو خير الرازقين}.. وماذا يطمع نبي أن ينال من البشر الضعاف الفقراء المحاويج وهو متصل بالفيض اللدني الذي لا ينضب ولا يغيض؛ بل ماذا يطمع أتباع نبي أن ينالوا من عرض هذه الأرض وهم معلقو الأنظار والقلوب بما عند الله الذي يرزق بالكثير وبالقليل؟ ألا إنه يوم يتصل القلب بالله يتضاءل هذا الكون كله، بما فيه وكل من فيه! ألا إنما تطلب هدايتهم إلى المنهج القويم: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} يصلهم بالناموس الذي يحكم فطرتهم، ويصلهم بالوجود كله، ويقودهم في قافلة الوجود، إلى الخالق الوجود، في استقامة لا تحيد. ألا وإنهم ككل من لا يؤمنون بالآخرة حائدون عن النهج ضالون عن الطريق: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون}.. فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار النشأة التي تحتم الإيمان بالآخرة، وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن، وتحقيق العدل المرسوم. فليست الآخرة إلا حلقة من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه الله لتدبير هذا الوجود. هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين تنكبوا الطريق، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة، ولا الإبتلاء بالنقمة. فإن أصابتهم النعمة حسبوا: {أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم، ولم تستيقظ ضمائرهم، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون. {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون. ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون}.. وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس، القاسية قلوبهم، الغافلين عن الله، المكذبين بالآخرة، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله، والشعور بأنه الملجأ والملاذ. والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان، واستيقظ وتذكر، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل، وأفاد من المحنة وانتفع بالبلاء. فأما حين يسدر في غيه، ويعمه في ضلاله، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح، وهو متروك لعذاب الآخرة، الذي يفاجئه، فيسقط في يده، ويبلس ويحتار، وييأس من الخلاص. ثم يجول معهم جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة. قليلاً ما تشكرون. وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون. وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار. أفلا تعقلون؟}.. ولو تدبر الإنسان خلقه وهيئته، وما زود به من الحواس والجوارح، وما وهبه من الطاقات والمدارك لوجد الله، ولاهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد. فما أحد غير الله بقادر على إبداع هذه الخلقة المعجزة في الصغير منها وفي الكبير. هذا السمع وحده وكيف يعمل؟ كيف يلتقط الأصوات ويكيفها؟ وهذا البصر وحده وكيف يبصر؟ وكيف يلتقط الأضواء والأشكال؟ وهذا الفؤاد ما هو؟ وكيف يدرك؟ وكيف يقدر الأشياء والأشكال، والمعاني والقيم والمشاعر والمدركات؟ إن مجرد معرفة طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها، يعد كشفاً معجزاً في عالم البشر. فكيف بخلقها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ ذلك التناسق الملحوظ الذي لو اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة الإنسان لفقد الاتصال، فما استطاعت أذن أن تلتقط صوتاً، ولا استطاعت عين أن تلتقط ضوءاً. ولكن القدرة المدبرة نسقت بين طبيعة الإنسان وطبيعة الكون الذي يعيش فيه، فتم هذا الاتصال. غير أن الإنسان لا يشكر على النعمة: {قليلاً ما تشكرون}.. والشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة، وتمجيده بصفاته، ثم عبادته وحده؛ وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره في صنعته. ويتبعه استخدام هذه الحواس والطاقات في تذوق الحياة والمتاع بها، بحس العابد لله في كل نشاط وكل متاع. {وهو الذي ذرأكم في الأرض}.. فاستخلفكم فيها، بعد ما زودكم بالسمع والأبصار والأفئدة؛ وأمدكم بالاستعدادات والطاقات الضرورية لهذه الخلافة.. {وإليه تحشرون}.. فيحاسبكم على ما أحدثتم في هذه الخلافة من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن هدى وضلال. فلستم بمخلوقين عبثا، ولا متروكين سدى؛ إنما هي الحكمة والتدبير والتقدير. {وهو الذي يحيي ويميت}.. والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله يملك الموت والحياة؛ فالبشر أرقى الخلائق أعجز من بث الحياة في خلية واحدة، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلباً حقيقياً عن حي من الأحياء. فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها. والبشر قد يكونون سبباً وأداة لإزهاق الحياة، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة. إنما الله هو الذي يحيي ويميت، وحده دون سواه. {وله اختلاف الليل والنهار}.. فهو الذي يملكه ويصرفه كاختلاف الموت والحياة وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة. هذه في النفوس والأجساد، وهذه في الكون والأفلاك. وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم جسده ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن. ثم تكون حياة ويكون ضياء، يختلف هذا على ذاك، بلا فتور ولا انقطاع إلا أن يشاء الله.. {أفلا تعقلون؟} وتدركون ما في هذا كله من دلائل على الخالق المدبر، المالك وحده لتصريف الكون والحياة؟ وهنا يعدل عن خطابهم وجدالهم، ليحكي مقولاتهم عن البعث والحساب، بعد كل هذه الدلائل والآيات: {بل قالوا مثل ما قال الأولون. قالوا: أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون؟ لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين}.. وتبدو هذه القولة مستنكرة غريبة بعد تلك الآيات والدلائل الناطقة بتدبير الله، وحكمته في الخلق، فقد وهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد ليكون مسؤولاً عن نشاطه وعمله، مجزياً على صلاحه وفساده؛ والحساب والجزاء يكونان على حقيقتهما في الآخرة، فالمشهود في هذه الأرض أن الجزاء قد لا يقع، لأنه متروك إلى موعده هناك. والله يحيي ويميت؛ فليس شيء من أمر البعث بعسير، والحياة تدب في كل لحظة، وتنشأ من حيث لا يدري إلا الله. ولم يكف هؤلاء أن تقصر مداركهم عن إدراك حكمة الله، وقدرته على البعث، فإذا هم يسخرون مما يوعدون من البعث والجزاء. أن كان هذا الوعد قد قيل لهم ولآبائهم من قبل، ولم يقع بعد! {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين}.. والبعث متروك لموعده الذي ضربه الله له، وفق تدبيره وحكمته، لا يستقدم ولا يستأخر، تلبية لطلب جيل من أجيال الناس، أو استهتزاء جماعة من الغافلين المحجوبين! ولقد كان مشركو العرب مضطربي العقيدة، لا ينكرون الله، ولا ينكرون أنه مالك السماوات والأرض، مدبر السماوات والأرض، المسيطر على السماوات والأرض.. ولكنهم مع ذلك يشركون معه آلهة مدعاة، يقولون: إنهم يعبدونها لتقربهم من الله، وينسبون له البنات. سبحانه وتعالى عما يصفون: فهو هنا يأخذهم بمسلماتهم التي يقرون بها، ليصحح ذلك الاضطراب في العقيدة، ويردهم إلى التوحيد الخالص الذي تقود إليه ملسماتهم، لو كانوا يستقيمون على الفطرة ولا ينحرفون: {قل: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: لله. قل: أفلا تذكرون؟ قل: من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون: لله. قل: أفلا تتقون؟ قل: من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: لله. قل: فأنى تسحرون؟}.. وهذا الجدال يكشف عن مدى الاضطراب الذي لا يفيء إلى منطق، ولا يرتكن إلى عقل؛ ويكشف عن مدى الفساد الذي كانت عقائد المشركين قد وصلت إليه في الجزيرة عند مولد الإسلام. {قل: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟}.. فهو سؤال عن ملكية الأرض ومن فيها: {سيقولون: لله}.. ولكنهم مع ذلك لا يذكرون هذه الحقيقة وهم يتوجهون بالعبادة لغير الله: {قل: أفلا تذكرون؟}. {قل: من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم}.. فهو سؤال عن الربوبية المدبرة، المصرفة للسماوات السبع والعرش العظيم. والسماوات السبع قد تكون أفلاكاً سبعة، أو مجموعات نجمية سبعة، أو سدماً سبعة، أو عوالم سبعة، أو أية خلائق فلكية سبعة. والعرش رمز للاستعلاء والهيمنة على الوجود.. فمن هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ {سيقولون: لله} ولكنهم مع ذلك لا يخافون صاحب العرش، ولا يتقون رب السماوات السبع، وهم يشركون معه أصناماً مهينة، ملقاه على الأرض لا تريم.. {قل: أفلا تتقون}.. {قل: من بيده ملكوت كل شيء؟ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟}.. فهو سؤال عن السيطرة والسطوة والسلطان. سؤال عمن بيده ملكية كل شيء ملكية استعلاء وسيطرة. ومن هو الذي يجير بقوته من يشاء فلا يناله أحد؛ ولا يملك أحد أن يجير عليه، وأن ينقذ من يريده بسوء من عباده.. من؟ {سيقولون: لله} فما لهم يصرفون عن عبادة الله؟ وما لعقولهم تنحرف وتتخبط كالذي مسه السحر: {قل: فأنى تسحرون؟}. ألا إنه الاضطراب والتخبط الذي يصاب به المسحورون! وفي اللحظة المناسبة لتقرير حقيقة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وبطلان ما يدعونه من الولد والشريك. . في اللحظة المناسبة بعد ذلك الجدل يجيء هذا التقرير: {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون. عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}. يجيء هذا التقرير في أساليب شتى.. بالإضراب عن الجدل معهم، وتقرير كذبهم الأكيد: {بل آتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون}. ثم يفصل فيما هم كاذبون: {ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله}.. ثم يأتي بالدليل الذي ينفي دعواهم، ويصور ما في عقيدة الشرك من سخف واستحالة: {إذاً لذهب كل إله بما خلق} مستقلاً بما خلقه، يصرفه حسب ناموس خاص؛ فيصبح لكل جزء من الكون، أو لكل فريق من المخلوقات ناموس خاص لا يلتقي فيه بناموس عام يصرف الجميع. {ولعلا بعضهم على بعض} بغلبة سيطرته وتصريفه على الكون الذي لا يبقى ولا ينتظم إلا بناموس واحد، وتصريف واحد، وتدبير واحد. وكل هذه الصور لا وجود لها في الكون، الذي تشهد وحدة تكوينه بوحدة خالقه، وتشهد وحدة ناموسه بوحدة مدبره. وكل جزء فيه وكل شيء يبدو متناسقاً مع الأجزاء الأخرى بلا تصادم ولا تنازع ولا اضطراب.. {سبحان الله عما يصفون}.. {عالم الغيب والشهادة} فليس لغيره من خلق يستقل به، ويعلم من دون الله أمره. {فتعالى عما يشركون}. وعند هذا الحد يلتفت عن خطابهم وجدلهم وحكاية حالهم، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره أن يتوجه إلى ربه مستعيذاً به أن يجعله مع هؤلاء القوم إن كان قد قدر له أن يرى تحقيق ما وعدهم به من العذاب. وأن يستعيذ به كذلك من الشياطين، فلا تثور نفسه، ولا يضيق صدره بما يقولون: {قل: رب إما تريني ما يوعدون. رب فلا تجعلني في القوم الظالمين. وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون. ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون. وقل: رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يحضرون}.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم في منجاة من أن يجعله الله مع القوم الظالمين حين يحل بهم العذاب الأليم، ويتحقق ما يوعدون، ولكن هذا الدعاء زيادة في التوقي؛ وتعليم لمن بعده ألا يأمنوا مكر الله، وأن يظلوا أبداً أيقاظاً، وأن يلوذوا دائماً بحماه. والله قادر على أن يحقق ما وعد به الظالمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون}.. ولقد أراه بعض ما وعدهم في غزوة بدر. ثم في الفتح العظيم.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} في هذا الدرس الأخير في السورة يستطرد في الحديث عن نهاية المشركين؛ فيبرزها في مشهد من مشاهد القيامة. يبدأ بمشهد الاحتضار في الدنيا، وينتهي هنالك بعد النفخ في الصور. ثم تنتهي السورة بتقرير الألوهية الواحدة، وتحذير من يدعون مع الله إلهاً آخر وتخويفهم من مثل تلك النهاية. وتختم السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليطلب غفرانه ورحمته؛ والله خير الراحمين. {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت}.. إنه مشهد الاحتضار، وإعلان التوبة عند مواجهة الموت، وطلب الرجعة إلى الحياة، لتدارك ما فات، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال.. وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار، مشهود كالعيان! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد: {كلا: إنها كلمة هو قائلها..} كلمة لا معنى لها، ولا مدلول وراءها، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها. إنها كلمة الموقف الرهيب، لا كلمة الإخلاص المنيب. كلمة تقال في لحظة الضيق، ليس لها في القلب من رصيد! وبها ينتهي مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعاً. فلقد قضي الأمر، وانقطعت الصلات، وأغلقت الأبواب، وأسدلت الأستار: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}.. فلا هم من أهل الدنيا، ولا هم من أهل الآخرة. إنما هم في ذلك البرزخ بين بين، إلى يوم يبعثون. ثم يستطرد السياق إلى ذلك اليوم، يصوره ويعرضه للأنظار. {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.. إنما تقطعت الروابط، وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا {فلا أنساب بينهم يومئذ}. وشملهم الهول بالصمت، فهم ساكنون لا يتحدثون {ولا يتساءلون}. ويعرض ميزان الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار. {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}.. وعملية الوزن بالميزان تجري على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير، وتجسيم المعاني في صور حسية، ومشاهد ذات حركة. ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح، وتشوه هيئتها، ويكدر لونها.. مشهد مؤذ أليم. وهؤلاء الذين خفت موازينهم خسروا كل شيء. فقد خسروا أنفسهم. وحين يخسر الإنسان نفسه فماذا يملك إذن؟ وما الذي يتبقى له. وقد خسر نفسه التي بين جنبيه، وخسر ذاته التي تميزه، فكأنما لم يكن له وجود. وهنا يعدل عن أسلوب الحكاية إلى أسلوب الخطاب والمواجهة، فإذا العذاب الحسي على فظاعته أهون من التأنيب والخزي الذي يصاحبه. وكأنما نحن نراه اللحظة ونشهده في حوار ممض طويل: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون!}.. وكأنما يخيل إليهم وقد سمعوا هذا السؤال إنهم مأذونون في الكلام، مسموح لهم بالرجاء. وأن الإعتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء: {قالوا: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}.. وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة.. ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم، فلم يكن مأذوناً لهم في غير الإجابة على قدر السؤال. بل لعله كان سؤالاً للتبكيت لا يطلب عليه منهم جواب. فهم يزجرون زجراً عنيفاً قاسياً: {قال: اخسأوا فيها ولا تكلمون}.. إخرسوا واسكتوا سكوت الأذلاء المهينين، فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء المهين: {إنه كان فريق من عبادي يقولون: ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون}.. وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم؛ إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته؛ وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله، ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود.. فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}.. وبعد هذا الرد القاسي المهين، وبيان أسبابه، وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت.. يبدأ استجواب جديد: {قال: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟}.. وإن الله سبحانه ليعلم. ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض، واستقصار أيامهم فيها. وقد باعوا بها حياة الخلود.. وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها. وإنهم ليائسون ضيقو الصدر، لا يعنيهم حسابها وعدتها: {قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. فاسأل العادين}.. وهي إجابة الضيق واليأس والأسى والقنوط! والرد: إنكم لم تلبثوا إلا قليلاً بالقياس إلى ما أنتم عليه مقبلون لو كنتم تحسنون التقدير: {قال: إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون}.. ثم عودة إلى الترذيل والتعنيف على تكذيبهم بالآخرة، مع التبصير بحكمة البعث المكنونة منذ أول الخلق: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؛ وإنكم إلينا لا ترجعون؟}.. فحكمة البعث من حكمة الخلق. محسوب حسابها، ومقدر وقوعها، ومدبر غايتها. وما البعث إلا حلقة في سلسلة النشأة، تبلغ بها كمالها، ويتم فيها تمامها. ولا يغفل عن ذلك إلا المحجوبون المطموسون، الذين لا يتدبرون حكمة الله الكبرى؛ وهي متجلية في صفحات الكون، مبثوثة في أطواء الوجود.. وتنتهي سورة الإيمان بتقرير القاعدة الأولى للإيمان.
|